هل تنتهى حرب أوكرانيا بالفعل فى 9 مايو 2022 المقبل ؟ ، أى بعد مرور شهرين ونصف الشهر على بدء روسيا عمليتها العسكرية ، لم تتحدث موسكو ولا عقبت بشئ عن التاريخ المذكور، بل سبق إليه المعسكر الآخر ، وألحت عليه دوائر أمريكية رسمية ، وبناء على ما تصفه بتقارير مخابرات دقيقة ، تتابع مع جماعة “فولوديمير زيلينسكى” والجيش الأوكرانى مايجرى لحظة بلحظة ، وتوالى تقديم أسلحة “فتاكة” بعشرات المليارات من الدولارات ، وعلى أمل هزيمة الجيش الروسى فى الميدان الأوكرانى ، وحرمان الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” من إعلان نصره فى 9 مايو ، الذى يصادف موعد الاحتفال السنوى بعيد النصر الروسى ، واستسلام القوات النازية للجيش الأحمر فى نهاية ما عرف باسم الحرب العالمية الثانية .
وقد لا تخلو فكرة “9 مايو” من وجاهة سياسية ورمزية ، وإن كانت موسكو المعنية لا تعلن شيئا عن موعد نهاية حرب قد تطول كثيرا ، تماما كما لم تورد من البداية تفاصيل تذكرعن تكتيكات عمليتها العسكرية ، واكتفت بعناوين عامة عن الأهداف السياسية ، بدا الغموض فيها مقصودا ، ودفع المعسكر الآخر إلى تخمينات ، جرى إطلاقها فى صورة معلومات ، ظهر زيف أغلبها ، من نوع الترويج لمرض عضال أصاب بوتين ، أو تضليل المستشارين لرجل الكرملين الأول ، أو اعتقال وزير الدفاع الروسى “سيرجى شويجو” ، أو انتقال القوات الروسية إلى الخطة “ب” بعد فشل الخطة “أ” ، وكلها مما ثبت فساده ، وكونها بعضا من أحاديث المقاهى ، التى تنشر فى وسائل إعلام ذات صيت دولى ، تخوض حرب أكاذيب لا تنتهى ضد كل ما هو روسى ، وتنفخ فى بوق “شيطنة بوتين” ، الذى يعود فيظهر فى صورة حازمة ، ولا يتراجع أبدا عن الأهداف الخمسة الكبرى لحملته العسكرية ، وعلى رأسها اعتراف الآخرين بروسية “شبه جزيرة القرم” ، التى جرى ضمها عام 2014 ، وكونها مسألة منتهية للأبد ، ثم اعتراف السلطة الأوكرانية الراهنة باستقلال جمهوريتى “لوجانسك”و”دونيتسك” فى الدونباس شرق أوكرانيا ، وتدمير ونزع البنية التحتية العسكرية للجيش الأوكرانى ، وتصفية نفوذ جماعة القوميين الأوكران الموصوفين بالنازية عند موسكو ، وقبل كل هذا وبعده ، إعلان ما يتبقى من أوكرانيا كيانا محايدا ، لا ينضم إلى حلف “الناتو” ، ولا لأى تكتل عسكرى آخر ، مع الاستعداد لتقديم ضمانات أمنية إلى “كييف” فى اتفاق إنهاء الحرب .
وبالجملة ، وقبل شهر كامل من موعد 9 مايو المفترض أمريكيا وأوروبيا وأوكرانيا ، لا تبدو هزيمة روسيا ممكنة ، فمعايير النصر والهزيمة ، تقاس بمدى الاقتراب أو الابتعاد عن الأهداف المرسومة ، صحيح أن العملية العسكرية الروسية ، بدت متباطئة جدا ، وبقوات محدودة ، ومرت أيام كثيرة من دون قتال فعلى ، بلغت نحو نصف أيام الحرب ، ربما على سبيل سعى روسيا لخفض التكاليف ودواعى الاستنزاف ، ثم لجأت روسيا لسحب وحداتها من شمال شرق وشمال غرب العاصمة الأوكرانية “كييف” ، بعد أن قدمت السلطة الأوكرانية تعهدا خطيا بعدم الانضمام لحلف “الناتو” فى مفاوضات اسطنبول ، ومن دون أن تعلن موسكو تخليها نهائيا عن اقتحام “كييف” إن لزم الأمر ، وهو ما قوبل بالارتياب فى واشنطن ، ودفعها مع تابعيها لنفخ النار فيما أسمى “مجزرة بوتشا” ، والأخيرة بلدة فى شمال “كييف” ، تركتها القوات الروسية منذ 30 مارس 2022 ، وبعدها بأيام ، بدأت معزوفة و”فيديوهات” لعشرات من جثث المدنيين فى شوارع “بوتشا” ، قيل أن القوات الروسية أعدمتهم رميا بالرصاص ، وهو ما تحدته روسيا بطلب انعقاد مجلس الأمن لمناقشة وكشف حقيقة ما جرى ، ونفت مسئوليتها عن المذبحة ، فيما تواصل واشنطن النفخ فى القصة ، ومعاودة طلب انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبهدف طرد روسيا من عضوية المجلس الدولى لحقوق الإنسان ، وكأن واشنطن تعزى نفسها بترديد اسطوانة عزل موسكو عالميا ، بينما القراءة الأدق للمشهد برمته ، تكشف حيازة موسكو لتأييد وتعاطف أكثر من نصف المعمورة ، حتى بمعايير الأمم المتحدة نفسها ، فالذين يرفضون إدانة موسكو ، أو يمتنعون عن التصويت بالإدانة ، قد تكون أعداد دولهم أقل فى عضوية منظمة الأمم المتحدة ، لكن أوزانهم بمعايير الجغرافيا والسكان والاقتصاد والسلاح والتنوع الثقافى ، تبدو أكبر من حجم التابعين للمشيئة الأمريكية فى الصدام الراهن ، فوق وجود تشققات محسوسة فى التحالف الأمريكى الغربى ، مرشحة للتفاقم إن حصلت روسيا على أهدافها المباشرة فى الحرب الأوكرانية ، وهو ما قد تنفتح له الطرق ، مع تركيز القوات الروسية على قضم شرق أوكرانيا وجنوبها ، بما يشمل “الدونباس” حتى “خاركيف” ، وهو أغنى مناطق أوكرانيا بالثروات والموارد الزراعية والمعدنية والصناعية ، وإكمال قوس الاتصال البرى بين “الدونباس” و”القرم” عبر “ماريوبول” ، وحرمان أوكرانيا بالكامل من الاتصال ببحر “آزوف” ، بعد الاستيلاء المبكر على مقاطعة “خيرسون” ، وعزلها عن البحر الأسود ، الذى لم تبق لأوكرانيا من نافذة عليه سوى ميناء “أوديسا” ، الذى تحرم “كييف” حاليا من استخدامه ، بعد تدمير قواتها البحرية وأسطولها التجارى ، وذهابها للاتفاق مع “رومانيا” لاستعارة موانيها فى استئناف تصدير ما تيسر .
وقد لا تصح الاستهانة بدور المقاومة الأوكرانية الشرسة ، وهى المدعومة بأكبر موجات تدفق السلاح إلى أراضيها ، وبدعم أمريكى غربى غير مسبوق فى حجمه منذ الحرب العالمية الثانية ، لكن أثرها الختامى على نتائج الحرب ، لا يبدو حاسما ، وقد هللوا لما أسموه انتصار “كييف” ، برغم أن انسحاب القوات الروسية من حولها جرى بمبادرة ذاتية ، قدرت على ما يبدو ، أن تكلفة دخول “كييف” وخوض حرب شوارع فيها ، قد تكون مما يحسن تجنبه ، حشدا للجهد العسكرى البرى فى اتجاه الجنوب ، وضم الأراضى التى يمكن لروسيا هضمها ، مع تكوينها السكانى الروسى الغالب ، ودفع جماعة “زيلينسكى” لتقديم تنازلات ، تجعل استمرارها فى السلطة بعد الحرب مشكوكا فيه ، فالهدف الروسى الرئيسى من عمليتها العسكرية المحسوبة ، ليس احتلال أوكرانيا بكاملها ، بل تغيير أوكرانيا جغرافيا وسياسيا ، و”خض ورج” الوضع الأوكرانى بالكامل ، وترك الغرب الأوكرانى لتناقضاته الداخلية ، بين جماعات الأرثوذكس والكاثوليك واليهود ، والأخيرون على قلتهم العددية ، يحكمون أوكرانيا رسميا ، فالرئيس ورئيس الوزراء وعدد كبير من المسئولين ، كلهم يهود وصهاينة ، ويحملون الجنسية الإسرائيلية إلى جوار الأوكرانية ، والرئيس “زيلينسكى” نفسه ، وصف “أوكرانيا” بأنها “إسرائيل كبيرة” ، وأكبر قادة كتائب “آزوف” النازية من اليهود الصهاينة ، وقد تبدو المفارقة اللفظية والإيحائية ظاهرة ، بين أن تكون يهوديا ونازيا فى الوقت نفسه ، لكن ساوك “إسرائيل” الذى نعرف جرائمه ، قرب المسافة حتى كاد يلغيها ، وهو السلوك نفسه الذى يميز القادة اليهود فى النخبة الأوكرانية الحالية ، فمفاتيح التحكم بالمال وفرق النهب كلها فى أيديهم ، فوق إدارة جماعات المقاومة الموصوفة بالنازية من أتباع “ستيبان بانديرا” ، وبلورة “قومية أوكرانية” من شتات عمل قريب الشبه من افتعال قومية إسرائيلية ، والصلات مع دوائر القرارالغربى ، قريبة فى طبائعها من وضع الأفضلية الإسرائيلية فى العواصم الغربية بعامة ، والعداوة للروس عند الدوائر الأوكرانية المعنية ، تشبه العداوة المتأصلة للعرب فى عقيدة كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، مع ما هو ظاهر من اختلاف هائل فى التفاصيل التاريخية ، لكن وضع الروس اليوم لا يقاس لوضع العرب المنكوب طبعا ، وقدرة روسيا على إلحاق الهزيمة بالقوميين الأوكران ليست محل شك ، واستخدام روسيا لتفوقها الجوى والصاروخى انتقائى ومدروس ، برغم تركيزها البرى بنفس هادئ على انتزاع الشرق والجنوب ، ولكن مع مواصلة الغارات على الشمال والغرب بصواريخ “كاليبر” و”اسكندر” و”كينجال” الأسرع من الصوت بعشر مرات ، وبقصد استنزاف وتدمير البنية التحتية العسكرية وشحنات السلاح المتدفق من الغرب ، فى مباراة طالت لاستنزاف الخصم الأوكرانى والغربى عموما ، مع الإنهاك الاقتصادى لدول الغرب الأوروبى بالذات ، التى تواصل مضطرة مع واشنطن فرض أقسى حزم عقوبات اقتصادية ومالية فى التاريخ على موسكو ، ومن دون أن يختنق الاقتصاد الروسى ، الذى تظهر عليه وعلى عملته “الروبل” للمفارقة علامات العافية المدهشة ، بينما تقلق الحكومات الغربية من حساب انتخابى ينتظر ، ومن غضب الناس المتزايد بسبب ارتفاع أسعار الطاقة ، وتضاعف معدلات التضخم ، وفيما تتزايد شعبية “بوتين” فى روسيا بإطراد ، تتراجع شعبية “بايدن” فى أمريكا بالإطراد نفسه ، وتبدو هزيمة حزبه شبه مؤكدة فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس المقبلة فى نوفمبر ، بينما تفوز الجماعات المؤيدة لروسيا فى دول “الناتو” نفسها ، وعلى نحو ما جرى مؤخرا فى انتخابات “المجر” البرلمانية الأخيرة ، فالسحر يكاد ينقلب على الساحر الغربى ، وفوز بوتين عالميا لا عزله ، قد يكون راجحا فى الحساب الأخير .
Kandel2002@hotmail.com