الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب لبكره احلى.. سلام “ترامب” الموهوم

جريدة بكره احلى الاخبارية رئيس مجلس الإدارة والتحرير وجدى وزيرى 

الذين تابعوا خطابات ـ لا خطاب ـ الرئيس الأمريكى الجديد القديم “دونالد ترامب” قبل أيام ، قد يلحظون انتفاخ الرجل وفخره المجنون بنفسه ، وشهوة تدفق كلامه عن استعادة عظمة أمريكا ، وكأنه يقصد ـ بلغة الجسد ـ استعادة عظمته الشخصية ، وفى رده على سؤال لم يعجبه من أحد الصحفيين ، كان رده الفورى لافتا ، فقد ترك السؤال جانبا ، وهاجم الصحفى بضراوة وصلف ، وقال له “لا تتحدث معى بهذه الطريقة” ، وأضاف زاجرا “إعرف أنك تتحدث مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية” ، ثم ترك الصحفى واستدار إلى الآخرين ، فوق أنه ضرب مثالا على المقدرة على إنجاز المستحيل بنفسه شخصيا ، وقال أن إعادة انتخابه وفوزه الكبير كان معجزة ، لم يتصورها أحد ، وربما يكون إفراط “ترامب ” الصاخب فى الاعتداد بذاته نقطة ضعف قاتلة فى عهده الجديد كله .
وقد بدا “ترامب” حريصا على الظهور بصورة الرجل القوى الإمبراطور ، وهو يتحدث عن ما أسماه تحقيق “السلام بالقوة” ، وقال أنه سينهى الحروب التى تشارك بها أمريكا ، وأن معيار قوة أمريكا لم يعد بمرات الفوز بالمعارك ، بل فى تجنب خوض الحروب من أصله ، وفى الوقت نفسه ، كان “ترامب” مبادرا لإشعال الحروب والأزمات والغزوات فى كل اتجاه ، من أول تغيير اسم “خليج المكسيك” إلى “الخليج الأمريكى” ، ثم إعلان رغبته فى استعادة السيطرة بالقوة على قناة “بنما” ، كما السيطرة على جزيرة “جرينلاند” التابعة لدولة “الدنمارك” ، وهى الجزيرة الأكبر فى البحار ، وتزيد مساحتها على مليونى كيلومتر مربع ، وقد أعلنت “بنما” و”الدانمارك” رفضهما البات لأى عدوان على وضع “قناة بنما” و”جزيرة جرينلاند” ، كما اعترضت روسيا على أطماع “ترامب” فى “قناة بنما” ، وأبدت الدول الأوروبية مساندتها لدولة “الدانمارك” فى قصة “جرينلاند” ، ولم يوفر “ترامب” أحدا من حلفاء واشنطن وأصدقائها وتابعيها ، وهدد الجميع بلغته الأوامرية الصارمة ، وطالبهم جميعا بسرعة الدفع لخزائن واشنطن الخاوية ، وزاد نسبة المبالغ المطلوبة من حلفاء واشنطن فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وصعد بها من 2%من ناتجهم القومى الإجمالى إلى خمسة بالمئة سنويا ، وربما يصعد بالإتاوة إلى 7% ، وكل ذلك تحت شعار أنه لا خدمات دفاع مجانية ، واشترط على دولة شرق أوسطية بترولية ، أن تزيد عروض شرائها لسلع وأسلحة أمريكية إلى 500 مليار دولار ، إن أرادت أن يشد رحاله إلى عاصمتها ، ومعه وعود الدفاع والحماية وبركة الزيارة ، وهو ما يعكس تفكيره “البيزنسى” القديم فى فن عقد الصفقات ، والقائم على الدعاية والتهويل والتخويف مقابل التحصيل المالى بأعلى سعر ، فهو يرغب فى إنقاذ أمريكا باعتصار أموال الآخرين من حلفاء واشنطن أولا ، ربما باستثناء بقرته المقدسة “إسرائيل” التى كلفه الرب بالدفع لها (!) ، وقد ألغى ما كان يسمى “الخطة الخضراء” والاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة والحد من التلوث ، وانسحب مجددا من اتفاقية “باريس” للمناخ ، وبغرض إطلاق الإنتاج الأمريكى من البترول والغاز الصخريين لأعلى سقف ، وإلزام الغرب الأوروبى والشرق آسيوى بشراء البترول والغاز من أمريكا حصرا ، وانقلب على قواعد حرية التجارة والعولمة الاقتصادية بالجملة ، وأعلن عن فرض حواجز حمائية وضرائب جمركية مرتفعة على فرص الآخرين فى النفاذ إلى السوق الأمريكية ، ولم يخف الحلفاء فى أوروبا وفى الجوار ضيقهم من الإعاقات الجمركية ، فقد انتاب “ترامب” الفزع من تراجع صادرات أمريكا ، ومقدرتها على المنافسة الحرة سواء مع الواردات المكسيكية والكندية ، أو مع دول الاتحاد الأوروبى ، التى قرر رفع الجمارك على بضائعها وصادراتها إلى 20% و25% ، بينما حظيت “الصين” ـ طبعا ـ بالجانب الأعظم من انتقامه الاقتصادى ، وأعرب عن رغبته فى رفع الجمارك على صادرات الصين إلى مستويات جنونية ، وقد كان ذلك دأبه نفسه فى فترة رئاسته الأولى ، وشنه الحروب التجارية على الصين ، ومن دون أن يؤدى ذلك إلى إلحاق أذى بالصين أكبر مما لحق بأمريكا ، فقد تحكمت الصين فى معادلات التبادل التجارى ، وردت على “ترامب” ـ و”بايدن” من بعده ـ بإجراءات مماثلة ، وبتقييد استيراد “فول الصويا” أهم واردات الصين من أمريكا (!) ، ولا تبدو اتصالات “ترامب” الاحتياطية المبكرة مع الرئيس الصينى “شى” مبشرة لأمريكا ، رغم قوله مؤخرا أن الرئيس الصينى يحترمه ، ويعرف أنه ـ أى “ترامب” ـ شخص “مجنون” ، وتبدو علاقة الطرفين كذلك فعلا ، فالصين ليست بحاجة إلى مقارعة الجنون بجنون ، وتتصرف بهدوء وثقة ، وقد نجحت الصين على مدى عقود فى كسب حرب العولمة الاقتصادية ، التى يسعى “ترامب” للانسحاب منها ، رغم أن أمريكا هى التى بشرت وبادرت إليها تاريخيا ، وضغطت على الدنيا كلها طويلا لفتح الأسواق وتفكيك القيود وتصفيرالجمارك على حرية التجارة (!) ، وتنسحب اليوم إلى ظل الإجراءات الحمائية ، بما يعكس إفلاسها التاريخى فى مباريات الإنتاج والصناعة والتجارة وحتى التكنولوجيا ، وإلى حد عرض “ترامب” لشراء نصف الشركة المالكة للتطبيق الصينى “تيك توك” ، مقابل وقف سريان قانون حظر التطبيق داخل الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد أفرط “ترامب” نفسه فى امتداح مزايا وشعبية التطبيق الصينى الشهير ، وكيف أنه كان واحدا من أهم أسباب فوزه الأخير بانتخابات الرئاسة الأمريكية مجددا .
وبالجملة ، تتعثر وسائل “ترامب” لإنقاذ إقتصاد أمريكا ، الرازح تحت ثقل ديون داخلية وخارجية تزيد على 35 تريليون دولار ، فيما تبدو صيغ الإنقاذ “الترامبية” ابتزازية تماما ، وأقرب إلى البلطجة والسرقات العلنية المباشرة ، وبدعوى “إنهم يسرقون أمريكا” فدعونا نسرقهم (!) ، أو أن نستولى على بلادهم كما هدد “كندا” و”بنما” و”المكسيك” و”فنزويلا” و”الدانمارك” ، ثم أن نطردهم خارج أمريكا ، كما فى حملات طرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين عبر حدود “المكسيك” ، وبقدر ما تلقى هذه الصيحات “الشعبوية” من تأييد ظاهر فى الداخل الأمريكى ، فإنها ـ رغم ذلك ـ لا تقدم حلا ناجزا لأزمات أمريكا الداخلية ، فوق أنها لا تقود إلى سلام عالمى موهوم ، يتحدث عنه الرئيس الأمريكى ، وكأنه امبراطور رومانى قديم ، يصنع سلام الإذعان على طريقة “روما” وقت أن كانت تتحكم بالدنيا ومن عليها ، ويريد حجز ثروات العالم وأمواله فى خزانة واشنطن ، مقابل التهديد بهراوة قوة لا يضطر إلى استخدامها ، فيكفى ـ عند “ترامب” ـ أن تنخلع قلوب الآخرين من رهبة القوة الأمريكية ، حتى يخضعوا ويدفعوا صاغرين وبالتى هى أسرع (!) ، وهو تفسير وتناول بدائى مبسط لتعقيدات العالم الراهن ، ولقواه الفوارة المتصارعة فى ميادين السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا ، فالعالم يمر من عقود بدراما تحول عاصفة ، يعاد فيها توزيع موازين القوة ، ورسم خرائط تعدد الأقطاب ، ولم تعد أمريكا كما كانت قبل عقود ، تلك القوة المرغوبة المرهوبة بعد انهيارالاستقطاب الثنائى وذهاب موسكو الشيوعية ، ولم تعد أمريكا تلك القوة الوحيدة المهيمنة الأعظم على عرش العالم ، بل ولم يعد الغرب كله فى موقع احتكار التقدم والسيطرة الحصرية ، وهو ما قد يفسر بعض تناقضات خطاب “ترامب” ، فهو لا يرغب فى اختبارات مضافة للقوة الأمريكية العسكرية ، بعد أن أدت اختبارات سبقت إلى كسر هيبة أمريكا ، وهو ـ أى “ترامب” ـ يفضل التلويح والتهديد بالقوة لا استخدمها فعليا ، وعلى ظن أنه يثير ذعر الآخرين ، ويضمن استسلامهم الفورى ، وهو ما لا يبدو واردا ولا محتملا ، فالقوة العسكرية التى تملكها روسيا والصين معا ، أكبر بكثير من مجموع القوة العسكرية الراهنة لواشنطن والغرب كله ، والصين التى تتقدم بثبات إلى عرش العالم اقتصاديا وتكنولوجيا ، تتقدم فى السنوات الأخيرة إلى بناء قوة عسكرية جبارة ، يجرى تحديثها المتسارع بقفزات هائلة صامتة ، وسبقت واشنطن نفسها إلى بناء الجيل السادس من القاذفات المقاتلة ووسائط الدفاع الجوى ، فوق سبقها مع روسيا فى عوالم القذائف والصواريخ الفائقة لعشرات أضعاف سرعة الصوت وأسلحة الليزروالنبضات الكهروـ مغناطيسية وغيرها ، فوق امتلاك الترسانات النووية الأكثر تطورا وتدميرا ، وهو ما قد يعنى ببساطة ، أنه لا أحد قد يترك “ترامب” للكسب ببلطجاته ومخاطراته وصفقات ابتزازه الكونى ، فللقوة الأمريكية حدودها ، فوق توافر روادعها بإطراد ، وهو ما تبدو أماراته ظاهرة فى ساحات الصغار والكبارعلى السواء ، يكفى ـ مثلا ـ أن جماعات مقاومة فلسطينية ولبنانية صمدت لبطش القوة الأمريكية و”الإسرائيلية” فى حرب الإبادة ، ويكفى ـ مثلا ـ أن جماعة “الحوثى” اليمنية أعجزت “الأرمادا” الأمريكية عن فتح طرق ملاحة البحر الأحمر ، ناهيك عن ما حل بالقوة الأمريكية والغربية كلها فى الميدان الأوكرانى على يد الروس ، وهو ما يميل “ترامب” نفسه إلى الاعتراف به ، وتسريع الانسحاب من أوكرانيا ربما بغير “خفى حنين” .
Kandel2002@hotmail.com

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

Demo Title

Demo Description


Introducing your First Popup.
Customize text and design to perfectly suit your needs and preferences.

This will close in 20 seconds

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock