جريدة بكره احلى الاخبارية رئيس مجلس الإدارة والتحرير وجدى وزيرى
في أحد أيام الصيف الحارقة، حيث الشمس تلتهب كأنها قررت أن تسكب أشعتها الحارقة بلا هوادة على شوارع القاهرة، كنت أستقل أتوبيس مدينة 15 مايو. الهواء المشبع بالحرارة الثقيلة كان يلتف حول الأجساد كوشاح من لهب، لكنني كنت محظوظاً بوجود التكييف في الأتوبيس، الذي كان كملاذ بارد ينساب بهدوء على الركاب.
بينما نحن منغمسون في استمتاعنا بذلك النسيم العليل، صعد رجل عجوز. كان ظهره منحنيًا من ثقل العمر، ووجهه تعلوه خطوط الحزن والتعب، وعرق الحرقة يتلألأ على جبينه. دخل بخطوات متثاقلة كمن يبحث عن أمانٍ وسط الصخب. جلس أخيرًا وكأنه عثر على واحة في صحراء قاحلة. التكييف البارد كان بمثابة رحمة مفاجئة، كقبلة الهواء على وجنتي طفل منهك.
لم يمض وقت طويل حتى اقترب الكمسري من العجوز، فطلب منه التذكرة. وهنا بدأت الدراما الحقيقية. مد الرجل يده المرتعشة إلى جيبه، وكأن قلبه يعتذر قبل أن ينطق لسانه. أخرج ثلاثة جنيهات بالية وقال بصوت خافت يختلط فيه الحزن بالحرج: “معيش غير 3 جنيه… والله. هانزل، معلش.”
كانت كلماته تحمل ثقل الدنيا، كأن العالم قد انقسم في تلك اللحظة بين فقره وحاجته. ارتفعت العيون من حوله، قلوب الناس تسمرت، وأرواحهم اهتزت كما لو أن صدى كلماته دق في أعماق نفوسهم. وفجأة، قطعت السكون سيدة جالسة في مقدمة الأتوبيس. رفعت يدها وكأنها تحمل الشعلة الأولى في موكب الرحمة، وقالت بصوت أمومي دافئ: “اقعد يا حج، أنا هدفعلك.”
ولم تمضِ لحظات حتى انطلقت عبارات الخير من كل حدب وصوب. “لا، أنا اللي هدفع!”، “سيبوني أنا اللي هادفع!”، وكأن الرحمة تسابقت على ألسنة الركاب. المشهد بدا كلوحة تتلألأ فيها مشاعر الإنسانية، كأمطار خفيفة تتساقط على أرض جافة فتُحييها.
الكمسري، الذي كان يتابع المشهد بعينين تلمعان دهشةً، قال ضاحكاً: “طيب، طول ما الكل مصر إنه يدفع، هنجمع الفلوس كلها!” وبدأ يجمع الأموال من الأيدي الممدودة بحب. وحين انتهى، وجد نفسه يحمل ما يقرب من 200 جنيه، أكثر بكثير من الأجرة المطلوبة. بابتسامة دافئة، توجه إلى العجوز وأعطاه باقي المبلغ.
العجوز، الذي بدا وكأنه طفل صغير تلقى هدية لم يكن يتوقعها، رفع عينيه المبللتين بالامتنان وقال بصوت متهدج: “ربنا يجازيكم خير.” كان المشهد أشبه بفيلم سينمائي، حيث النبل والكرم تسابقا، والقلوب اتحدت لتكون نغمة واحدة في سمفونية الرحمة.
وفي تلك اللحظة، شعرت بأن بلدنا ليست مجرد أماكن وشوارع، بل هي أرواح نابضة بالخير، قلوب تنبض بحب الآخر، وتتفانى في مساعدة المحتاج. لقد شعرت برحمة الله تتنزل بيننا، وكأننا نحيا في عالم أكثر نقاءً مما اعتدنا عليه.