الصحفى الكبير عبد الحليم قنديل يكتب لبكره احلى.. دراما “كورسك” الروسية

جريدة بكره احلى الاخبارية رئيس مجلس الإدارة والتحرير وجدى وزيرى 

بدا الغزو الأوكرانى لمقاطعة “كورسك” الحدودية الروسية مفاجئا بكل المعانى ، وانقلابا دراماتيكيا فى مسار الحرب الجارية منذ نحو ثلاثين شهرا ، فقد نجحت قوات النخبة الأوكرانية فى نقل الحرب إلى الداخل الروسى ، ولم تعد المقاطعات الأوكرانية الأربع ( دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) وحدها مسرحا للحرب المتطاولة ، وقد شهدت شهورها الأخيرة تقدما مطردا للقوات الروسية ، وقضما متسارعا للقرى والبلدات والمدن ، وبالذات فى منطقة “الدونباس” ، وفى مقاطعة “دونيتسك” على وجه الخصوص ، ومن دون أن يتغير الإيقاع الحربى على جبهة طولها ألف كيلومتر وأكثر فى الداخل الأوكرانى ، حتى بعد مرور عشرة أيام على بدء الهجوم الأوكرانى المفاجئ فى مقاطعة “كورسك” الروسية الملاصقة لجغرافيا مقاطعة “سومى” الأوكرانية .
ولعل أول ما لفت النظر فى حوادث التوغل الأوكرانى على جبهة “كورسك” ، أن القوات الأوكرانية تقدمت بسرعة مذهلة ، وكأنها تمضى فى نزهة خلوية ، ومن دون مقاومة تذكر من قبل القوات الروسية ، التى كانت غائبة بالفعل عن ميادين “كورسك” ، اللهم إلا من عناصر حرس حدود فردية التسليح ، لم يكن بوسعها أن تصمد فى مواجهة غزو مقتحم منظم بالدبابات والمدرعات الأمريكية والألمانية ، فيما لم تتواجد ولا جاءت قوات روسية مسلحة من أصله ، وهو ما يفسر طبيعة الخسائر البشرية التى أعلنها الروس ، فقد قالوا أن عدد القتلى 12 مدنيا فى أسبوع الغزو الأوكرانى الأول ، إضافة إلى 121 جريحا بينهم عشرة أطفال ، بينما بدا الجيش الروسى كدب نائم فى غفوة الغياب ، وبدت أجهزة الاستخبارات الروسية العسكرية غائبة هى الأخرى ، وثبت فشلها الذريع فى توقع الهجوم الأوكرانى ، رغم كثافة الحشود قبلها فى مقاطعة “سومى” الأوكرانية على الجانب الآخر من الحدود ، أو قد تكون الاستخبارات الروسية حذرت كما قيل ، لكنها لم تجد أحدا يستمع أو يحتاط فى رئاسة أركان الجيوش الروسية ، التى يتولاها الجنرال “فاليرى جيراسيوف” ، وهو ابن ذات الأكاديمية العسكرية الروسية ، التى تخرج منها الجنرال “فاليرى زالوجنى” القائد العام السابق الشهير للقوات الأوكرانية ، وقد أطاح به الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، وأحل محله الجنرال “ألكسندر سيرسكى” بتعليمه العسكرى الروسى أيضا ، والذى لم تظهر له أى كرامات عسكرية منذ تعيينه فى 8 فبراير 2024 ، لكنه كان قائدا للهجوم الصاعق فى “خاركيف” أواخر عام 2022 ، وقد نجح وقتها فى إزاحة سريعة للقوات الروسية إلى جيب صغير شرق مدينة “كوبيانسك” ، ثم تبدت مهاراته أخيرا فى خداع الروس ، وبدء الهجوم الأوكرانى الحالى فى مقاطعة “كورسك” الروسية ، وهكذا بدا “سيرسكى” كأنه جنرال المفاجآت السعيدة للأوكران طبعا ، وما من شك فى الأثر الفورى لمغامرة “سيرسكى” ، ورفعه الروح المعنوية المنهارة للشعب الأوكرانى ، وإثبات أن الجيش الأوكرانى قادر على إيذاء الروس ، والاستفادة من تكاسل البيروقراطية العسكرية الروسية ومركزيتها المفرطة ، واستهتارها بقدرات قوات النخبة الأوكرانية المدربة بمعرفة الجيوش الغربية ، واستيعابها لتقنيات السلاح الغربى المتطور .
وقد لا يكون ما جرى ويجرى فى “كورسك” الأول من نوعه ، فقد سبقته غارات برية متقطعة فى مقاطعة “بيلجرود” الروسية المجاورة ، وقيل وقتها ، أن قوات من المتطوعين الروس الانفصاليين شاركت فى الغارات ، تماما كما قيل هذه المرة مع توغل الأوكران داخل “كورسك” ، وهو الأكبر من نوعه ، بل لم يحدث شئ من ذلك أبدا منذ العام 1941 ، حين أقدمت جيوش “هتلر” على غزو روسيا ، ودارت بعدها ملاحم ومعارك ما يسميه الروس بالحرب الوطنية العظمى (1941 ـ 1945) ، وكانت نقطة التحول فيها على أرض “كورسك” ذاتها ، حيث جرت ما تعد أكبر معارك الدبابات فى التاريخ ، وقد عرفت باسم معركة “فوس كورسك” ، التى استمرت لأسابيع منذ 5 يوليو 1943 إلى 23 أغسطس من العام نفسه ، وفيها وبعدها ، تدحرجت جيوش حملة هتلر (بارباروسا) من هزيمة إلى هزيمة ، وإلى أن سبق الروس (السوفييت وقتها) إلى اقتحام “برلين” ، وهو ما دفع مسئولون روس بتداعى الذكريات إلى تكرار التهديد باقتحام “برلين” مجددا ، بعد مفاجأة الغزو الأوكرانى السريع فى “كورسك” ، خصوصا مع وجود العربات الألمانية المدرعة “ماردر” مع القوات الأوكرانية الغازية ، وإصابة الهيبة الروسية المفترضة فى مقتل ، ولو إلى حين ، فقد بدا الروس كعادتهم التاريخية المتكررة ، يتلقون الضربات المفاجئة ، ثم يفكرون فى التكيف السريع معها ، ومعالجة الأخطاء الفادحة واستيعاب الدروس ، ثم يبحثون فى الرد وطرق كسب النصر ، وتحويل المحن والنوازل إلى منح وفرص حربية ، وهو ما يفسر طبيعة الإجراءات الفورية التى اتخذوها ، من نوع إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين عن مقاطعة “كورسك” ، وعن “بيلجرود” المجاورة ، والبدء بوقف التقدم الأوكرانى عند المساحة المستولى عليها ، والمقدرة بأكثر من 2% من مساحة “كورسك” البالغة 190 ألف كيلومتر مربع ، وبعدد قليل من سكان لا يجاوزون 440 ألفا ، والتركيز أولا على حماية المنشآت الأهم ، وأولها المحطة النووية الكهربية غرب مدينة “كورسك” عاصمة المقاطعة ، ومحطة نقل الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا فى مدينة “سودجا” ، التى كانت قوات الغزو الأوكرانى وصلت إلى أجزائها الغربية ، ولا تزال محطة نقل الغاز تعمل ، وتضخ الغاز إلى دول أوروبية عبر أراضى أوكرانيا نفسها ، وبعد تأمين السكان والمنشآت الكبرى ، وعلى نحو يبدو رتيبا منتظما ، يجرى نقل القوات الروسية الخاصة إلى ميادين النار فى “كورسك” ، مع الحرص على عدم سحب أى قوات روسية عاملة فى أوكرانيا ، وبعد إكمال الاستعدادات وحشد القوات المطلوبة ، وإعلان حالات الطوارئ فى المقاطعات الروسية المحاذية للأراضى الأوكرانية (كورسك وبيلجرود وبريانسك) ، ربما تبدأ على ما يبدو عملية حصار وسحق القوات الأوكرانية الغازية ، فالشعار الذى يرفعه الروس اليوم ، هو أنهم لا يريدون أسرى أوكرانا جددا ، فلديهم ما يكفى ويزيد من الأسرى ، وقد بدت رغبة الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” فى الانتقام ظاهرة ناطقة ، وبدا “بوتين” غاضبا فى اجتماعات متلفزة عقدت مع مساعديه ، ربما تؤذن بإقالات لاحقة لكبار المسئولين فى الجيش وأجهزة الاستخبارات الروسية ، قد تجرى قبل أو بعد أن تنتهى المهمة العاجلة ، التى قد تستغرق أسبوعين أو أكثر ، فلا يبدو الروس فى عجلة من أمرهم رغم هول المفاجأة ، وقد لوح “بوتين” بحرب إبادة لمن يعتبرهم أوكرانا “نازيين” ، وهو ما لا يعنى بالضرورة ، أن يلجأ الروس لاستخدام أسلحتهم النووية التكتيكية فوق أرضهم فى “كورسك” أو غيرها ، بل ربما اللجوء لتطوير خطط وأهداف ما يسميه “بوتين” بالعملية العسكرية الخاصة ، ومن دون إجراء تعبئة عسكرية عامة شاملة ، أو حتى الإعلان الرسمى القانونى للحرب ، فقد يلجأ الروس إلى غزو مقاطعة “سومى” الأوكرانية المحاذية لمقاطعة “كورسك” ، وبدعوى إقامة منطقة أمنية عازلة فيها ، وعلى نحو ما فعلوا ويفعلون فى مقاطعة “خاركيف” الأوكرانية المحاذية لمقاطعة “بيلجرود” الروسية ، وقد يعيد الروس النظر فى أهدافهم النهائية داخل أوكرانيا ، وعلى نحو لا يقتصر على إكمال السيطرة على المقاطعات الأربع المعلن عن ضمها (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) ، وقد تتمدد أهداف الروس جنوبا إلى الاستيلاء على “دنيبرو بتروفسك” و”أوديسا” ، وقطع اتصال ما تبقى من أوكرانيا بمياه البحر الأسود ، ولو استطاع الروس أن ينفذوا ما يخططون له ، فقد تصبح مغامرة الغزو الأوكرانى لمقاطعة “كورسك” مجرد حدث معزول ، وجملة اعتراض حربية ، لا توفر للأوكران ولا للغرب أى ميزة عسكرية أو سياسية ملموسة ، فلن تستطيع القوات الأوكرانية غالبا ، أن تبقى سيطرتها على أرض داخل روسيا فى “كورسك” ، ولا استخدام أرض روسية مستولى عليها فى مقايضة لا حقة مع الروس ، يعود بها كل طرف إلى حدوده الدولية المعترف بها ، وربما لذلك ، تكتم “واشنطن” حماسها لما فعله الأوكران فى “كورسك” ، وتدعى أنها لم تكن تعلم ، وأن الأوكران يتصرفون من تلقاء ذاتهم ، مع أن أهداف الأوكران المعلنة ، تبدو مطابقة لأهداف الأمريكيين ، وبينها زعزعة الوضع الداخلى فى روسيا ، وإثارة نقمة الشعوب الروسية على حكم “بوتين” ، والسعى لتفكيك روسيا ذاتها ، وهو ما لم يتحقق شئ منه طوال الثلاثين شهرا من الحرب الجارية ، التى قد يواجه فيها الروس صدمات ومفاجآت ونكسات ، على طريقة ما جرى ويجرى فى “كورسك” ، لكنهم سرعان ما يعودون إلى التماسك ، واستعادة الهيبة مجددا ، ويعيدون فى كل مرة ، ما نتصوره تكرارا ، يرقى إلى مرتبة قانون العادة الحربية التاريخية ، فالروس يهزمون ثم يهزمون ، لكنهم ينتصرون أخيرا ، فعلوها مع حملة “نابليون” وحملة “هتلر” ، ويفعلونها اليوم مع حملة أمريكا وحلف “الناتو” فى الميدان الأوكرانى .
Kandel2002@hotmail.com

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock