
جريدة بكره احلى الاخبارية رئيس مجلس الإدارة والتحرير وجدى وزيرى
بقلم : صبحي حجاب
الثقافة تعني الوعي , والإدراك الإيجابي , والرشد الادراكي بمستقبليات الوطن , أو اللا وعي , والتسطيح والتجهيل , أو ثقافة الفساد , والخيانة , وثقافة الفردانية وحب الذات , فالثقافة هي اتجاهات فكرية تحكم سلوكيات المجتمع وطرق تفكيره , والمؤسف حقا أن ثقافة اليوم مصابة بشئ من الخوف , فدعاة التطوير بعتبرون عملية التغير وهم من بعض المفكرين الذين تعمقوا في فكر العرب بشكل عام , فدعاة التطوير أولئك الذين ينظرون إلي التراث بعيون غربية , يرون عملية التغير لا تتم خارج الميتافيزقا الخاصة بكل أمة , وبالمعادلة الاجتماعية في مواجهة العولمة , أولائك والذين أعلنوا موت العرب وموت الأمة تارخا وحضارة , وأولئك الذين هم في قطيعة مع التراث ومع الدين والأعراف , وهم في خصومة لكل ما هو ذاتي , ونراهم يمجدون كل ما هو خارجي وغربي , نراهم يخشون الاقتراب من التراث العربي , ويرون أن العودة اليه يمثل الشد للوراء والتخلف عن ركب الحداثة والثقافة المعاصرة ..
وعلي النقيض تماما نجد تيارات ثقافية تعشق الماضي وتتغني بالتراث , ويرون الخروج منه تنصل من كل القيم العروبية , وبعضهم يري أنها ردة عن القيم الدينية , واتباع مناهج الكفر والالحاد , كليهما يعتريه شيئ من الخوف , فالمعاصر يجب أن يبني علي ما تركه السلف بتجديد ثقافي يتعايش مع المجتمع الحضاري , لكنهما في صراع داخلي موجه بفضل الصراعات السلطوية علي مر العصور الاسلامية والعربية
اللامبالاه ليست وليدة الصدفة , بل هي نتاج وانعكاسات أمور كثيرة وسلبيات متعددة , وهي ضمور في الرغبة في التفاعل مع القضايا الشخصية والمجتمعية نتجية فقد الأهداف والأمل في تحقيق أي طموح ويسيطرة سلبيات الياس والاحباط علي بصيرته , والاكتفاء بالمعايشة مع الواقع كريشة تتقاذف بها تيارات الهواء , واصلاح الفرد وجعله كائنا ايجابيا مع المجتمع يلزم أن يجد الفرد نفسه أولا ويجد اهدافه ويحدد اولياتها وقدرته علي تحقيق شيئا منها وأن تعرف علي ضالته التي ستجعله يلهث لتحقيقها والفوز بها , واللامبلاه ليست ظاهرة فردية , بل ظاهرة مجتمعية خطيرة جدا وبالغة الخطورة ايضا , فهي ظاهرة تشبه ظاهرة التصحر , وصول التصحر الي الارض الخصبة , ولعل من اهم اسبابها هؤلاء المثقفين المتشائمين الذين يبثون الياس والاحباط كل ساعة ويمطرون اذان البسطاء باطنان من الكلام البائس عن المستقبل المظلم والحياة الكئيبة – اللامبلاه –
لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد : التقليد والتجديد ، المحافظة والتحديث ، الجمود والتحرر ، الرجعية والتقدمية ، الأنا والآخر ، الداخل والخارج ، المحلي والعالمي ، القديم والجديد ، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة .
وجدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا ، بهدف الخروج من وضعنا البئيس . إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء .
إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ ، وما يشغلها الآن هو : كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه . هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان ، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان .
إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين ، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير ، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر . فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي
إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم ، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى ، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة ، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية ، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم ، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف ،محو التخلف ، ونشر الوعي الايجابي المجتمعي , ويفترقان في الأسلوب : الأصالة بالمحافظة على الموروث،أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه ، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه , ولا ريب : أنه وجد غلاة في كلا الفريقين . ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر ، وجد الجامدون على كل قديم ، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ، شعارهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حتى قال محمد كرد علي : نسينا القديم ، ولم نتعلم الجديد .
إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ، وهي ثنائية التكامل ، لا ثنائية التضاد والتقابل ، وقد أحسن د. عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله : ” لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث ” .
إن الثقافة العربية تتكون من مكونين رئيسيين : اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها : ” الثقافة العربية الإسلامية ” , واللغة هي وعاء العلوم جميعاً ، وأداة الإفهام والتعبير العلمي ، والفني والعادي ، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها ، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية .
ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية . وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى ، وإشاعة العامية ، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة القومية ، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة ، وإحلال الحرف اللاتيني محله ..
أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها ، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً ، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية ، وشعائره التعبدية ، وقيمه الخلقية ، وأحكامه التشريعية ، وآدابه العملية ، ومفاهيمه النظرية ، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم ، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته ، شعر أم لم يشعر ، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول : أنا نصراني ديناً ، مسلم وطناً ..
ويأتي السؤال ـ الإشكالية : كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد ؟ كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم ؟ وبين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض ؟ فلا أمل في الجمع بينهما ، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما ..
السؤال خطير ، والجواب مهم ، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها ، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً , وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين ، فاختار فريق التراث والأصالة ، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان , واختار آخرون العصر والحداثة ، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان . وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء .