قد لا نلتفت كثيرا إلى الهوية السياسية والتنظيمية لمنفذى عملية “بنى براك” فى ضواحى “تل أبيب” ، ولسابقيهم من أبطال عمليتى “بئر السبع” و”الخضيرة” ، المهم أنهم أحرار فلسطينيون ، فدائيا “بنى براك” قدما من “جنين” بالضفة الغربية ، والسابقون إلى الخيرات من داخل الأراضى المحتلة عام 1948، من “النقب” و”أم الفحم” ، ولا يجوز وصفهم بالإرهاب ، حتى لو كانوا من تنظيم “داعش” ، أو تأثروا بأفكاره ، على حد ما زعمت بيانات مزيفة ، فالإرهاب عمل يضل طريقه وغايته ، ويقتل المسلمين والعرب أكثر من غيرهم ، أما المقاومة فعمل وطنى مقدس ، وكل طلقة رصاص أو طعنة سكين بصدر قوات الاحتلال وكيان الاحتلال ، هى عمل مقاوم بامتياز ، تقره وتحث عليه كل شرائع العدالة السماوية والبشرية .
وقد شاءت أقدار الحوادث من حولنا ، أن تكشف فوضى خلط الأوراق المفضوح ، فكل المحتلين فى التاريخ ، نعتوا المقاومة بالإرهاب ، ووصفوا الاحتلال والاغتصاب برسالة الحضارة ، وبالمسئولية الأخلاقية والتمدين ، وبلغ “ديفيد بن جوريون” مؤسس كيان الاحتلال من الفظاظة منتهاها ، حين وصف كيان الاغتصاب الإسرائيلى بأنه “نور العالم” ، ومن دون أن يسأل نفسه عن دواعى هجرته من “بولندا” للاستيطان فى فلسطين عام 1906 ، وقيادته مع غيره لعصابات الصهيونية الإرهابية ، التى أدارت أبشع مجازر قتل وطرد الفلسطينيين من أراضيهم ، وكان “بن جوريون” ملحدا ، يسخر من الديانة اليهودية ومن رب موسى عليه السلام ، ويعتبر “التوراة” حفنة أساطير نافعة فى غرس الاستيطان الصهيونى فى فلسطين ، وظل وفيا لعقيدة الاغتصاب والإحلال إلى أن مات فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 ، ودفن فى مزرعته الاستيطانية “سديه بوكير” بالنقب ، وحيث تحول قبره إلى مزار ، كاد وزراء الخارجية العرب المشاركون فى “لقاء النقب” ، بدعوة من وزير خارجية الكيان “يائير لابيد” ، وبإمرة وزير الخارجية الأمريكى الصهيونى “أنتونى بلينكن” ، وكاد الوزراء أن يتورطوا فى زيارة قبر مؤسس كيان الاحتلال ، لولا عملية “الخضيرة” التى أرعبت قادة الكيان ، ودفعتهم إلى إلغاء الزيارة خوفا على سلامة الضيوف العرب المطبعين ، وإن نقلت عنهم إدانات لعملية “الخضيرة” ، ومن قبلها لعملية “بئر السبع” ، جعلتهم مع المحتلين الإسرائيليين سواء بسواء ، ونزعت عنهم براقع الحياء الوطنى والإنسانى ، وإن حاول بعضهم التملص من القصة كلها وآثامها ، على طريقة وزير الخارجية المصرى ، الذى قال بعد عودته للقاهرة ، أن مصر لن تشارك أبدا فى أى حلف عسكرى مع إسرائيل ، وأنه ذهب لإثارة قضية السلام وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس (!) .
وقد يكون ما قاله الوزير المصرى مفهوما بدواعيه ، وله ظروف ليس هنا مقامها ، وإن كانت المشاركة فى “لقاء النقب” عملا مشينا فى ذاتها ، تماما ككل لقاء يعقد بين قادة كيان الاحتلال ومسئولين من جنسيات مسلمة أو عربية ، بينما يتعذرعقد أى لقاء جامع بين القادة العرب ، وتنزل قممهم المتعثرة إلى القيعان ، بل إن بعضهم جعلوا من كيان الاحتلال قبلتهم الأولى والأخيرة فى الصلاة والسياسة ، وصار زيتهم فى دقيق الكيان ، وبدعوى المصلحة المشتركة فى مواجهة التمدد الإيرانى ، واستبدال عداوة إيران بعداوة “إسرائيل” ، والتذرع بطلب حماية كيان الاحتلال ، بعد أن تراخت عنهم الحماية الأمريكية المشتراة ، وقبل ما يزيد على ثلاث سنوات ، كان “مايك بومبيو” وزير خارجية الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب” ، قد قام بجولات مكوكية فى المنطقة ، ودعا إلى حلف عربى إسرائيلى ضد إيران ، عرف إعلاميا باسم “ناتو” الشرق الأوسط ، وتعثرت الفكرة بعد خروج مصر منها ، وهو المصير نفسه الذى ينتظر الفكرة ذاتها ، بعد أن جرى تجديدها على يد “بلينكن” وزير خارجية إدارة “بايدن” ، ولسبب غاية فى الوضوح ، هو عدم القدرة على تجاوز القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلى ، برغم كل محاولات الالتفاف والتحايل ، وإدارة المؤامرات والاتفاقات فى الخفاء والعلن ، فالقضية الفلسطينية ليست بلا صاحب ، حتى وإن تخلى عنها كل حكام العرب المتورطون فى وزر التطبيع ، والتحالف المعلن مع “إسرائيل” ، والتخفى من وراء أقنعة التفاوض لإقامة دولة فلسطينية فى غزة والضفة ، وعلى ما يزيد قليلا على ستة آلاف كيلومتر مربع ، لا تشكل سوى 22% من مساحة فلسطين المقدسة ، وتناسى الحقيقة الأصلب حضورا ، وهى أن قضية فلسطين لها رب وشعب ، ولن تموت أبدا مع كر العقود ، وأن الصراع فى جوهره على 27 ألف كيلومتر مربع ، تكون مساحة فلسطين بكاملها ، وأن التوازن السكانى يميل بإطراد لصالح الفلسطينيين أصحاب الأرض ، وأن أجيال الفلسطينيين التى تتناسل ، لا تنسى أبدا وعدها وثأرها التاريخى ، حتى فى صحراء “النقب” ، التى تمتد على أكثر من نصف مساحة فلسطين كلها ، ويصحو أهلها البدو إلى حقوقهم غير القابلة للتصرف ، ويخرج من أصلابهم شهداء تلو الشهداء ، لن يكون آخرهم “محمد غالب أبو القعيان” بطل عملية “بئر السبع” عاصمة “النقب” الفلسطينى .
والمعنى ببساطة ، أن “لقاء النقب” ، على التدنى والخزى والعار فيه ، لن يجد طرقا سالكة ، لا فى المنطقة ، ولا فى العالم الذى يعاد تشكيل توازناته على نار الحرب الأوكرانية ، ويتراجع فيه وزن أمريكا الكونى ، كما يتراجع بالتبعية وزن ربيبتها “إسرائيل” ، وإذا كانت أمريكا تتخفف من عبء حماية تابعيها الخليجيين ، فلن تكون “إسرائيل” قادرة على استبدال الدور ، وكل ما يهم قادة كيان الاحتلال هو افتعال صورة جديدة لإسرائيل ، تلغى صورة المحتل والغاصب والكيان الإرهابى ، وهو ما لن يتحقق يوما ، مهما جمعت “تل أبيب” من مسئولين عرب على موائدها وفى حجرها ، ومهما تقاطر إليها وزراء من الجنسيات العربية ، فالأوهام لا تحل بديلا للحقائق ، مع يقظة الشعب الفلسطينى إلى وحدته العابرة للتقسيمات ، وأخذه لقضية التحرير الوطنى بين يديه ، وتركه لطاعة زعماء السلطات والفصائل ، وتحول عمليات المقاومة إلى رياضة شعبية فلسطينية جامعة ، يغذيها انسداد الطرق إلى أى مفاوضات أو تسويات فى المدى المنظور ، وتضاعف وحشية كيان الاحتلال ، وتفاقم عنصرية اليمين الإسرائيلى الحاكم ، ورفضه الانسحاب من أى شبر فلسطينى محتل ، وهو ما يلجئ الفلسطينيين إلى الخيار الآخر المقاوم ، فالفلسطينيون ليسوا كما بشريا مهملا ، وقضيتهم ليست محصورة فى عوز اقتصادى ، ويكتشفون مع تهاوى اتفاقات “أوسلو” وما تلاها ، أن قضيتهم الكبرى فى تصفية الاحتلال قبل وبعد كل شئ آخر ، ويلهمهم صمود وبسالة “المقدسيين” من حول “كنيسة القيامة” و”المسجد الأقصى” ، ويرشدهم إلى أن بوسعهم اجتراح ما يبدو لآخرين فى مقام الاستحالة ، وأنه لم يعد من فرق فى الأوضاع بين المحاصرين فى غزة ، وضحايا البطش اليومى فى القدس والضفة ، وفى أراضى 1948 ، فلم تعد المقاومة المسلحة مطلوبة فقط فى بقعة فلسطينية دون غيرها ، وكانت تلك هى العبرة والثمرة الباقية من معركة “سيف القدس” فى مايو 2021 ، وقلنا وقتها ، أن ما جرى له ما بعده ، وأن “قيامة القدس” هى قيامة لفلسطين كلها ، وأن عبارة “ماوراء الخط الأخضر” تشطب من الخرائط ، وأن مقاومة كل فلسطين صارت هى الحاضر والمستقبل ، وإلى أن تعود النجوم لمداراتها بزوال قبضة الاحتلال كله ، حتى لو تأخرت لحظة الحسم النهائى إلى عقدين مقبلين ، تتغير فيهما الدنيا والمنطقة على نحو غير مسبوق ، وتنهض دولة المقاومة الفلسطينية الشعبية ، تحت ضغط تراكم القهر والعنت ، ونفاد حيل التسويات المريبة الناقصة ، وسقوط دعاوى السلام وأناشيد التطبيع ، وتحول نظريات الاستسلام إلى لغة خشبية ميتة ، لا تبث الحياة فيها لقاءات ولا قمم مخزية ، لا تبقى لها من وظيفة ، سوى إماطة اللثام عن سوءات أمراء الطوائف العرب ، الذين لن تنقذهم “إسرائيل” من صحوة شعوبهم .
وبالجملة ، فقد حلت ساعة الفصل بين المقاومين والمطبعين ، شابان فلسطينيان أفسدا بعملية “الخضيرة” عرس المحتفلين بعارهم فى “لقاء النقب” ، وأثبتا أن المقاومة لها اليد العليا ، وأن حس الاستشهاد سيهزم يقينا بلادة وهوان التطبيع والخضوع ، وأن خط سير الحوادث فى المنطقة كلها ذاهب إلى صدام أكيد ، لن تجدى فيه المناورات والتلاعبات ، فوجود الخطر الإيرانى لا يلغى أولوية الخطر الإسرائيلى ، ومن حق من يريد مواجهة إيران أن يفعل ، ولكن ليس باستعارة سلاح العدو للحرب ضد الجار الإيرانى ، والعبث بمشاعر الناس ووجدان الأمة ، وكل أمة لها محرماتها ومقدساتها وواجباتها ، ومن واجب الوقت أن نردع التوسع الإيرانى بقوانا الذاتية ، لكن واجب الوقت وكل وقت ، أن نكون مع فلسطين لا عليها ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .