أنا مجاهد وِلْد حسانين بعيش في الصعيد بمحافظة قنا ، كنت ومازلت الطفل المدلل عند أمي وبويا على أربع أخوات بنات وأنا الولد الوحيد ومن أجل هذا أنا مدلل . كل طلباتي مجابة . برغم أنني مهندس زراعي، وأمي وبويا يعملان في التربية والتعليم .
قرر والداي حرصاً منهما على بناء شخصيتي واكتسابي صفات الرجولة أن يدخلاني الجيش لأني تربيت بين أخواتي البنات فلم اكتسب منهم عادات وسلوكيات الرجال فعرضوا على هذا القرار فرفضت لأنني لا أحب التقييد وأحب الانطلاق وأجد متعة في عدم تحمل المسئولية .
فقام أبي بتعنيفي بشده بسبب هذا الأمر، حتى وافقت وأنا غير مقتنع به ، بسرعة غريبة وبمساعدة أبي اجتزت الكشوفات الطبية وتم استخراج كارنية جندي باسمي وتم ترحيلي إلى مركز تدريب المشاة ، وفي أول يوم بالمركز قمت بتوديع أبي وأمي وأخواتي بحالة نفسية سيئة جداً وبكاء وقلق وتوتر مما هو قادم ولا أعرف عنه شيئًا.
بدأت بالدخول إلى أرض الطابور مع زملائي الجدد ، فتعرفت على خالد من القاهرة ، وبحراوي من أسوان ، وزين من الأسكندرية ، وبهيّ من المنوفية وانتظرنا سوياً حتى جاء رجل كبير السن وقال لنا : أنا الشويش عبدالعاطي المسئول عنكم حتى تنهوا فترة التدريب وأخذ الدفعة بالكامل وذهب بنا حتى يُسلمنا الملابس الميري ( المِخْلَة ) .
وبدأت من اليوم التالي في التدريبات العسكرية وقام الشويش عبدالعاطي بصفنا في صفوف وأخذ تمام الجنود فلاحظ أن شعري طويل فأمر الحلاق بحلقة نمرة واحد وأنا في مكاني بالطابور ، فاعترضت على أوامره فقام بمعاقبتي ( تسعه استعد ) وحلق شعري ثم بدأت التدريبات الفعلية بما فيها من قسوة وحكمة وقدرة على التحمل والصبر ، وفي أحد أيام التدريب كانت الشمس حارقه ونحن نقف في الصحراء ثابتين وأي جندي يتحرك يجازى .. حينها اشتدت حرارة الجو عليّ فوقعت على الأرض فأحاطني زملائي الأربعة لإنقاذي فأمرهم القائد أن يتركوني ويقفوا في الطابور فرفضوا تنفيذ الأوامر فعاقبهم وعلى الرغم من ذلك لم يتركوني حتى أسعفوني وقلت لهم : لن أنسى لكم هذا المعروف .
قالوا لي : لا معروف بين الأخوه فنحن أخوة .
شعرت أنني بين أهلي وزاد حبي لهؤلاء الزملاء وتوطدت العلاقات الطيبة بيننا ، واستمرت فترة التدريب بكل ما فيها من قسوة وشدة من الشاويش عبدالعاطي، وحب وتعاون من زملاء السلاح حتى انتهت الفتره وتم توزيعنا على الوحدات الأساسية ولحسن الحظ تم توزيعي أنا وزملائي الأربعة معاً بأحد الوحدات بمدينة الإسماعيلية.
قبل الذهاب إلى وحدتنا الأساسية حصلنا على إجازة أسبوع توجهت مسرعاً إلى أهلي بالصعيد لأنني اشتقت إليهم وحينما وصلت فرح والداي وإخوتي كثيراً وكانوا ينظرون إليَّ نظرات إعجاب لم أرها من قبل
قالت لي أمي : أنت الآن رجل افتخر بك بين أفراد العائلة اكتسبت صفات الخشونة ، وتحمل المسئولية ، وحدثت تغيرات بك إلى الأحسن ، فذكرتني بقول الشاعر / محمود غنيم من قصيدة ( كن قوياً ) :
يا شباب العلم في الوادي الأمين أشرق الصبح فهزوا النائمين
مصـر ترجــو منكم جيـلاً فتيـــا ســـــالم البنيــة مِقـداماً قــويا
لا ضعيـفاً خــائـر العـزم عييـــا كُتب الذل علـى المستضعفين
قلت لها : معكِ حق يا أمي على الرغم من قسوة الحياة العسكرية إلا أنني تعلمت الكثير والكثير تعلمت من القسوة والشده وقوة التحمل فوائد ستساعدني كثيراً في حياتي المدنية .
انتهت الإجازة وذهبت إلى وحدتي الأساسية بالإسماعيلية وكان هذا عام ( 1972م ) ، وكنت وزملائي الأربعة معاً في عنبر واحد ننام ونتحدث سوياً، ونأكل ونشرب ونتدرب ونقف خدمة معاً فأصبحنا كياناً واحداً وقلباً واحداً، مرت الأيام والليالي وجاء عام ( 1973م ) وقررت القيادة العليا للوطن الاستعداد للحرب على العدو الإسرائيلي وجاءت لنا الأوامر بأن وحدتي سوف تشارك بفرق المشاة في التدريب وكنت وزملائي الأربعة خالد وبحراوي وزين وبهيّ ضمن الجنود المشاركين في هذا التدريب وعلى مهمة واحدة أيضاً .
كانت فرحتي لا توصف بهذه المهمة وقمت على الفور بإرسال خطاب لوالداى لأخبرهم بعزمنا على الثأر من العدو ، وبعد ثلاثة أيام أرسلوا لي خطاب رداً على خطابي قالوا لي فيه :
ولدنا العزيز / مجاهد وِلْد حسانين
بعد السلام والتحية
يا ولدي يا مجاهد جاهد لربك في سبيل وطنك خوض المعارك يا بطل حقق نصر أوطانك، قلبك اللين نشف وأصبح حديد جارف، لما الشمس تنزل في الغروب تحت السماء الزرقاء بين البحر والجبل بتنتهي حياه وتبدأ حياة جديدة، كون يا ولدي السبب في بداية حياة جديدة بها الكرامة والعزة، ابني بلادك يا ولد وعمر في أراضيها ارويها تطرح قمح وخضر لنا فيها إمسك يا ولدي سلاحك ودافع عن أراضيها .. دافع عن أراضيها .
والله يا ولدي وصرت راجل واعر، روح الميدان هات النصر وعود ، وعود ، وعود يا ولدي .
أبوك ، وأمك ، وأخواتك
قد حركت كلمات هذا الخطاب مشاعر وأحاسيس جديدة، لكنها حقيقية بداخلي أدركت سمو الشعور بالمسئولية الحقيقية تجاه وطن حر وسيظل حراً ما دامت هناك إرادة قوية وتكاتف بين أفراد هذا الوطن المصري العظيم .
ثم جاءت الأوامر بالتحرك ، وذهبت مع زملائي الذين صاروا أصدقائي إلى خط النار ودارت المعارك ( الطيران فالمدفعية ثم المشاة ) وقمت بقتل العديد من جند إسرائيل وتدمير ( 7 ) دبابات وفي أثناء المعارك فوجئت بصديقي خالد القاهري قد استشهد . فعم الحزن قلبي فعزمت على الثأر له من الأعداء وكان معي زين الأسكندراني ، وبهيّ المنوفي ، وبحراوي الأسواني . استمرت المعارك الضارية والاشتباكات العنيفة فاستشهد زين وبهيّ نتيجة إلقاء العدو قنبلة عليهم أصبحت مع صديقي بحراوي نقاتل العدو بقلب ثائر متوهج حزين على فراق الأصدقاء وفي أثناء المعارك أصبت بطلق ناري في فخذي الأيمن فحملني صديقي بحراوي الأسواني ولم يتركني فقلت له : إذهب أنت وانجو بنفسك .
قال لي : الرجل الحقيقي لا يترك صديقه وقت الشدائد يا مجاهد .
فحملني على كتفيه وهو يطلق النار على العدو وأخذ يعدو حتى وصل إلى النقطة الطبية ثم قال لي : يا صديقي نحن مصريون والجيش المصري علمنا كيف نكون رجالاً وقت الشدائد .
هزت الكلمات كياني ثم قلت له : ربنا معاك يابن والدى .
فتركني للطبيب وعاد للمعركة تاركاً مشاعر جميله وتعاليم رائعه لا ولن أنساها أبداً .
مكثت أكثر من ثلاثة أيام تحت الرعاية الطبية بعدها طلبت من القائد السماح لي بالعودة لميدان القتال وبعد ما استشار القائد الطبيب في حالتي سمح لي القائد بالعودة إلى خط النار وفي هذه الأثناء التقيت بأخي بحراوي الأسواني وكانت مفاجئة سارة له فأخذني بالأحضان ثم ذهبنا بعد ذلك للقتال فرأى بحراوي أحد جنود العدو سوف ينقض علىّ فحاول إنقاذي فأصيب هو إصابة خطيرة فقمت بقتل الجندي الإسرائيلي وذهبت لأنقذ صديقي الوفي بحراوي فقال لي في ألم شديد : أسرتي أمانة بين يديك يا مجاهد ثم مات .. مات الرجل الوفي الصادق الذي علمني معانٍ كثيرة جميلة لم أعهدها من قبل وداعاً رفيق السلاح .
حملت الشهيد بحراوي إلى أقرب مكان لقيادتنا وعدت إلى المعركة وأخذت أقاتل وأحارب مع الجيش المصري العظيم حتى تحقق النصر تحت قيادة الزعيم/ محمد أنور السادات رئيس الجمهورية وارتفع العلم المصري فوق أراضينا .
بعد فترة من الوقت وانتهاء الحرب حصلت على إجازة وأنا في حزن شديد على الأصدقاء الذين رحلوا دفاعاً عن الأرض والعِرْض متذكراً ذكرياتي الجميلة معهم ووقوفهم بجانبي في شدائد كثيرة فإغرورقت عيناي بالدموع ونظرت للسماء مردداً فداك يا وطني كل غالٍ .
وصلتُ قريتي وشاهدت الخضرة النضرة والأشجار العطرة والعصافير الخضرة فناجيت نفسي :
يــــا حــلوه يامـــو الحــرده على الأوره ….. يــا بـــدر منــــور يــا زينــه يـا أمــــــــــــوره
يا حلوه يا للي جمالك أحلي من الصوره ….. يـا حـلوة يـاللي الهـوى طيّر الأصة من الأوره
يا حلوه علمتيني إزاي أحب .. علمتيني إزاي أحـن …
يـام الجمال علمتيني إزاي أكـون إنسـان يا أســـطوره
يــاللي الجمـــــال أصـلك وفقلبك الطيبــه … ياللي السـلام والحـب نما ليكي.. آه يا ســنيوره
يـــا حــلوه يـامــو الحــــرده على الأوره … يـا بـــدر منـــــور يـــا زينــــــه يــا أمــــــوره
يــا حـلوه لما الهــوى مـال ورن خلخالك … سِمع القلب وقال يا محلى دلالك …. يـا أموره
يا حلوه يامو الملايه اللف ومشيه متغندره … يــاللي خطفتـي القلـب يـا زينــه يـا منــــوره
يــا حــلوه يــامــو الحــــرده علـى الأوره … يـــا مصــــر الأمل يا أجمــل ما في الصـوره
أخذت نفساً عميقاً ثم وصلت إلى أسرتي فكانت فرحةً عارمة ومكثت شهراً مع عائلتي ولكنني لم أنسَ الذين ضحوا بأنفسهم لنعيش مرفوعي الرءوس أعزاء في أوطاننا .
جاء وقت إنهاء خدمتي بالجيش فقال لي والدي : مبروك يا مجاهد خلاص قربت تنهي خدمتك .
قلت له : لن أترك الجيش يا والدي سوف أتطوع لأن الجيش مدرسة كبيرة في الوطنية والإخلاص والعطاء فالجيش يا والدي هو الشعب والشعب هو الجيش .
والدي : نعم يا ولدي ربنا يحميك ولكنني أنا ووالدتك نحب أن نفرح بك وتتزوج .
قلت له : وأنا أيضاً يا والدي وهناك امرأة أرغب في الزواج منها من أسوان .
والدي : من أسوان ! وكيف عرفتها ؟
قلت له : أود أن تذهب معي أنت وأمي لأتزوجها .
والدي : : ليس لدي مانع .
وبعد ثلاثة أيام ذهبت أنا ووالداي إلى أسوان وتقدمت لأهل هذه المرأه وأقنعتهم بالزواج منها لأن هذه المرأه هى أرملة صديقي الشهيد بحراوي الأسواني الذي ضحى لإنقاذ حياتي وترك زوجته التي تزوجها لمدة شهر واحد فقط ولم ينجب أطفالاً فوافق والدها ووالداي على هذا الزواج من أجل الوفاء والإخلاص لصديقي الشهيد ، وكان والد بحراوي هو وكيلها الذي زوجها لي ، وتم الزواج وأنجبت ولداً سميته بحراوي .
إن الحب والعطاء والتضحية أمور قادرة على تغيير حياة الشعوب والأوطان وإن القلوب المحبه لوطن لديه جيش أصيل تحميه من فتن ومكائد وصراعات الأعداء .
الشاعر / أحمد هيكل :
عشت يا مصر راية شـماء ومنارًا للشرق يهدى الضياء
ورعـاك الإله نيـلاً وشـعباً وتـرابًا مقـدســـًا وســــــماء