الإنسان يغنى منذ بدء التاريخ، والحنجرة هي أول وتر ضرب عليه الفنان وأخرج منه أصواتًا، وتطورت الأصوات من تعبير بدائى إلى تعبير غنى وهكذا، والحمار لا يملك إلا ثلاث أو أربع نغمات يرددها في حزنه كل مرة بدون تجديد، والكروان يملك من ٧ – ١٦ نغمة رقيقة يبدل فيها بين الحين والآخر.
الإنسان يملك سلالم من النغم وتاريخ وحضارة تتبدل فيها وسائل التعبير، وأشكال النغم وأشكال الجمال في الصوت واللحن والرسم والعمارة وجيل الأمس عادى اليوم.. قبيح غدًا.
حتى جمال المرأة تغير مقياسه، فالسمنة والبياض والجسم الطرى المتراخى فقدت جاذبيتها، وأصبح الجمال رشاقة وغزلانية وبشرة لوحتها الشمس، وكان أجمل الصدور هو الصدر الناهد لأنه أصلح الصدور لإرضاع الطفل، وهذا يعنى أن سر الجمال ليس في الشكل والخطوط والألوان ولا في سلم الأنغام المجموعة التي يرددها المغنى ولكن في الوظيفة التي تؤديها هذه الألحان بالنسبة لعقل المستمع ووجدانه، ولأن وجدان المستمع يتطور وعقله يتغير لا بد أن يتغير كل شيء.
هذه المقدمة ضرورية لأننى أحببت أن أبدأ بتصفية حسابى مع الغناء القديم ومقاييسه وشطب كل محاولة تخضع الموسيقى لذوق الخلعى والحامولى وسلامة حجازى.
إن جمال الغناء القديم لا يتجاوز حدود جمال الأنتيكات، فالهرم جميل لكنه غير صالح للسكنى ولا للاستعمال، فكل ما هو قديم جميل داخل عصره لأن وظائفه مربوطة بحاجات هذا العصر، وخارجه هو غريب ومتخلف، وإن اللحن مولود جديد مثل المولود الجديد، لحمه ودمه من أمه لكن شكله شيء آخر وسلوكه نمط جديد في العائلة كلها.